سعيد هلال الشريفي
دعونا نسرد الحكاية من أولها. نسمي الأشياء بمسمياتها لمرة واحدة, دونما نفاق أو خوف من أحد, ونصرخ عاليا: كفانا استحواذ لأعدل قضية تتبعثر بين رايات بألوان مختلفة, وتنوء تحت ثقل شعارات عقائدية وإيديولوجية, لايستفيد من ضعف خطابها الموجه إلى العالم, إلا العدو الصهيوني الذي يعرف جيدا كيف يوظفها في تأليب الرأي العام الفاعل في الغرب, ضدنا, من خلال طرح نفسه كمدافع عن قيم الحرية والديمقراطية والحضارة الغربية, في وجه "المتوحشين العرب المتخلفين,الذين يروجون لثقافة الموت". الأمر الذي يسوغ لها, ويعطيها الحق القانوني في "الدفاع عن نفسها" دون أية إشارة إلى كونها أولا وقبل أي شيء, قوة احتلال, لاتملك حق الاستئثار بحق "الدفاع عن النفس" دون الطرف الآخر, لو أتقن العرب إدارة أطراف هذا الصراع, الذي حولته الولايات المتحدة والدعاية الصهيونية, من قضية شعب مطرود من أرضه التاريخية ومحروم من حق المقاومة, المصون بموجب شرعة الأمم المتحدة, إلى قضية لاجئين, ومن ثم إلى قضية إرهابيين مسلمين أصوليين متشددين, يسعون إلى أسلمة العالم الحر, وإعادته مئة قرن إلى الوراء.
كيف تجرؤ إسرائيل على ارتكاب كل هذه المجازر بحق مدنيين عزل, تقصف المدن والبنى التحتية, تدمر المنازل فوق رؤوس ساكنيها, تشيع الخراب والدمار وشلالات الدماء المتدفقة من أجساد أطفال ونساء أرهقهم الحصار والبرد والجوع والمرض, دون أن يحرك كل هذا الظلم وهذه العربدة ساكنا في ضمائر الغرب, الذي يرى ويسمع كل يوم ما يجرى في غزة الذبيحة, دون أن يرف له جفن, أو أن تدفعه هذه المظالم التي فاقت كل حد إلى النزول للشارع, وإطلاق صرخة مدوية واحدة, تقول: "كفى ظلما لشعب اعزل. لن نقبل بهذه المهزلة الإنسانية بعد اليوم". وصدقوني أنها لو حدثت, لتغيرت موازين القوى بشكل دراماتيكي, وفي غير مصلحة هذا العدو الفاجر الذي يستمد قوته من تواطيء حكومات الغرب مجتمعة معه, منذ قيام دولته العدوانية حتى الآن, وحتى يأذن الله بغير ذلك.
تبشرنا سيلفيا زابي, في افتتاحية صحيفة لوموند الصادرة بتاريخ التاسع من الشهر الجاري, بتعذر وقوع معجزة من هذا النوع, تحدث انقلابا جذريا في مزاج شعوب الغرب التي تم حقنها عبر سنوات طويلة خلت, بالكثير من مشاعر الكراهية ضد العرب, وخصوصا المسلمين.
وتتساءل: " كيف يمكن لقوى اليسار وهيئات المجتمع المدني, التي رغم أنه قد هالها مارأت من مجازر يندى لها الجبين بحق المدنيين الأبرياء, أن تنزل إلى الشارع لتقول كلمتها وراء متظاهرين من أصول عربية ومسلمة, يرفعون رايات حماس وغير حماس ويصرخون بشكل هستيري "الله أكبر" في قلب العواصم الأوروبية, وكأن الصراع الجاري في الأراضي الفلسطينية المحتلة, صراع ديني, بين يهود ومسلمين فقط, وليس قضية شعب فلسطيني سلبت أرضه, وشرد, ومن بقي منهم في مدنه وقراه الفلسطينية, يعاني منذ ستين عاما, من أبشع أشكال القمع والإذلال والحصار تحت سلطة احتلال متوحشة لاتقيم وزنا للقانون الدولي, ولا تعترف بحق الحياة الكريمة, لهذا الشعب المسكين".
عندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية, بكافة مكونات تنظيماتها الفدائية, وعلى رأسهم فتح العلمانية, تقود النضال الوطني الفلسطيني, كان من الصعب جدا على آلة الدعاية الصهيونية, شيطنتها, لأنها كانت تقود نضالا وطنيا تحرريا, يضم المسلم والمسيحي العربي تحت العلم الفلسطيني, من دون أية شعارات دينية, وكانت تحظى بتعاطف العالم معها, حتى تم الالتفاف عليها, واحتواءها كليا باتفاقية أوسلو عام 1993, التي أدخلتها في متاهة المفاوضات العبثية, بعد أن أخرجتها من ساحة النضال العروبي الطابع, التحرري المضمون, لتفسح المجال رحبا أمام إسرائيل لتسليط الضوء على خصم مقاوم آخر, يسهل عليها تعبئة الرأي العام الغربي والعالمي ضده, إنها الحركات الإسلامية, المقاومة الوحيدة على الساحة النضالية الفلسطينية.
ينقل المؤرخ الإسرائيلي ناحوم غولدمان عن بن غوريون, مؤسس الكيان الصهيوني قوله: " لو كنت قائدا عربيا لما وقعت أي اتفاق مع دولة إسرائيل. لقد أتينا إليهم واغتصبنا أرضهم بالقوة, بموجب وعد من الله لنا, وهو غير ملزم لهم. فإلههم غير إلهنا.ومن حقهم أن يرفضوا ادعاءنا, ويثبتوا حقهم إذا كانوا قادرين على ذلك.
وفي معرض رده على سؤال لمراسل صحيفة فرنسية, إبان الاحتفال باعتراف الأمم المتحدة بالدولة العبرية عام 1947, بسؤاله: أنتم دولة صغيرة ناشئة محاطة من كل جهاتها, ببحر من العرب, ألا تخشونهم؟
أجابه بن غوريون ساخرا: متى كان المتعلم يخاف من هذا الذي تسميه بحرا من الجهلة.
بلى سيشكل العرب خطرا علينا في حالة واحدة. عندما يملكون ناصية العلم. وهذا أبعد مايكون, في المدى المنظور, عن أنوفهم.
لكن المقاومة اللبنانية, كسرت هذا الحاجز, صيف عام 2006, وغيرت معادلة الصراع. غير أن إسرائيل لم تفهم ذلك, فمضت لتغسل عار هزيمتها بهزيمة أشنع ولكن في حمامات الدم الفلسطيني النازف في غزة.