أحب أن أشكر في البداية الزميل والصديق الأستاذ أحمد تيناوي, مدير تحرير صحيفة بلدنا, على دعوته لي مؤخرا لاستئناف الكتابة بعد توقفي لشهور عنها في صحيفتي "الأم" تشرين
المصدر : سعيد هلال الشريفي
صحيفة بلدنا
13/09/2010
تمر ذكرى الكذبة الكبرى التي أفاق العالم على هولها في الحادي عشر من أيلول عام 2001 بضجيج أقل من العام الذي سبقه، ضجيج تغيب عنه تدريجياً طقوس تأجيج النار في الصدور, التي ألفناها, والتلويح بعصا انتقام المارد الذي لم يشف غليله كل هذا الدمار, وحمامات الدم التي استبيح فيها كل شيء.
لست أدري لماذا قفزت هذا الصباح إلى ذاكرتي كلمات الشاعرة سنية صالح التي يعود تاريخ نشرها إلى ثلاثين سنة خلت, فرحت أدندن بعضاً من كلماتها طيلة النهار, دون أن تفارقني لحظة واحدة.
لماذا في هذا الوقت؟
ألأن رائحة البارود التي تحملها رياح شرقية تحاصر حواسي من كل اتجاه, وتؤجج الرغبة في اقتناص لحظة صفاء ضائع, لحظة حنين إلى صور من الماضي, تتدفق في ثنايا ذاكرة أعياها الانتظار والأمل بأن الأيام القادمة ستكون أجمل؟.
ذات مساء شتائي بارد جدا من عام 1992 اكتست فيه مدينة باريس حلة بيضاء مع وقع هطول الثلج لأيام متواصلة, وكانت أيضا ليلة عيد الفطر التي لاتعني لسكان مدينة النور شيئاً كثيراً, سوى تذكير قاطنيها في نهاية نشرة أخبار المساء, بحلول «عيد المسلمين» هكذا يسمونه, والتقدم إليهم, بروتوكولياً, بالتهاني.
كان الصمت يكسو جدران شقتي الصغيرة المطلة على نهر السين, فيحيلها إلى كوخ مهجور, وسط مدينة تضج بالحياة على مدار الساعة.
تباً للهاتف الذي لايرن منذ ساعات كي يمزق ذلك الصمت الموحش الساكن في كل مكان رغم صوت التلفاز, وبعض الضحكات التي تخترق النافذة المغلقة بإحكام.
سماعة الهاتف لم تبرح يدي طيلة ساعتين, أملاً في اتصال مع أي من الأهل أو الأصدقاء في الوطن, لكن دون جدوى.
كنت لحظتك بشوق إلى شيء ما, يكسر ذلك الإحساس الرهيب بالغربة في ليلة العيد. كنت بشوق أيضا لأن أصغي إلى صوت أمي المبحوح, وأصوات تكبيرات المآذن المتداخلة ببعضها, المتناهية إلى سمعي عبر الهاتف من بعيد.
كانت تتملكني رغبة عارمة في أن أشتم رائحة الكعك بالزيت البلدي الخارج لتوه من الأفران, وأسمع ضجيج الأطفال في الأزقة حتى وقت متأخر من ذلك المساء.
كانت باريس تهمس في أذني بحب، وأنا أقطع الشارع المؤدي إلى بار ممتلئ بأناس من مختلف الأعمار والأجناس, كي أضيع في الزحام, علني أنسى وحدتي الموحشة في ذلك المساء: الوطن ليس مدينة رائعة نسكنها. إنه ذلك الشيء الجميل الذي يخلق معنا, يكبر معنا, يسكن أعماقنا, ويرافقنا أينما رحلنا.
حمل منذ يومين بريدي الالكتروني رسالة أعادت إلى روحي المتعبة ألق ذكريات أيام جميلة, كانت من شاعرة فرنسية كنت قد تعرفت إليها في نهاية ثمانينات القرن الماضي في مدينة مرسيليا, إثر أمسية شعرية- موسيقية ألقت فيها قصائد تفيض عذوبة وعناقا لكل ما هو إنساني وشفاف. كنت أيضا قد أهديتها ترجمة لقصيدة سنية صالح «رماد الحضارات» التي لاتفارق كلماتها مسامعي طيلة هذا اليوم.
«هكذا كان في غمرة الأفراح الزائلة, والآلام الصاعدة,
تحت ورق الخريف الذهبي,
يعتلي المنصة كالضواري,
ليتخلص من انتمائه إلى تلك الأجيال,
وذلك الوطن,
إلى المرأة التي يحب
المرأة التي جعلته يجري وراء الخلود
بقدمين وهميتين....»
من ثمرات الأوراق:
العين لاترى الأشياء المهمة من حياتنا. القلب وحده يرى الحقائق. «أنطوان دو سانت اكزيبيري»
بكلمتين
تباً للهاتف الذي لايرن منذ ساعات كي يمزق ذلك الصمت الموحش الساكن في كل مكان، رغم صوت التلفاز, وبعض الضحكات التي تخترق النافذة المغلقة بإحكام.