في الطريق التي تفصل بين مدينة اكس آنبروفانس ومنطقة لوفار التي تعانق البحر المتوسط وجبال الألب معاً, أخذت بريجيت تحدثني كيف قدمت هي وعائلتها إلى جنوب فرنسا قبل خمسة عشر عاما ضحكت وقالت: كانت فكرة لاتخلو من الإثارة.
[size=9]سألتها: كيف؟ فأجابت:
[size=9]كنت وأخوتي لا نزال أطفالا, وكنا نعيش في منزل ريفي تحيط به حديقة مترامية الأطراف في ولاية كاليفورنيا, عندما عاد والدي من رحلة عمل له في أثيوبيا محققا صفقة تجارية كبرى, باع خلالها كميات ضخمة من مضخات الري العمودية للحكومة الأثيوبية, عادت عليه بثروة طائلة, فقرر هو ووالدتي بالرحيل بحثا عن مكان آخر من العالم للتمتع بطيب العيش, فوقع اختيارهما على فرنسا, وتحديداً جنوبها وبوساطة إحدى الوكالات العقارية تمكنا من شراء غابة صنوبر مساحتها مئتا هكتار.
[size=9]فجأة وجدنا أنفسنا ذات صيف من عام 1973 نقيم في عربة كارافان مجهزة بكل وسائل الراحة وسط الغابة, بانتظار انتهاء شركة البناء من انجاز نسخة طبق الأصل عن منزلنا السابق في كاليفورنيا.
[size=9]التفتت ناحيتي ثم أردفت:
[size=9]سوف تفاجأ بالكثير من الأمور غير المألوفة:
[size=9]والدي جيلبرت؛ مهندس متخصص بالمياه, قدم إلى الولايات المتحدة, في أواخر الستينيات, ببعثة دراسية من جامعة أمستردام, لمتابعة أبحاثه العملية لمدة سنة. هناك تعرف على والدتي سميرة؛ العراقية القادمة لتوها من بغداد للغرض نفسه بإيفاد من جامعة بغداد أيضاًالتقيا مصادفة في أحد مخابر الجامعة, ونشأت بينهما قصة حب خارقة, لم تنته فصولها حتى الآن,تكللت كما سترى, بمجيئي إلى هذا العالم الجميل, ومن بعدي شقيقي إيريك وأخيراً شقيقتي تماره.
[size=9]أحذرك منذ الآن يا أستاذ. شقيقتي تماره سوف تطفئ شمعاتها الثمانية عشر بعد أقل من شهر.
[size=9]وهي جميلة وجذابة جدا لكنها لعوب جدا, تحب ممارسة الإغراء على أي شخص يزورنا إنها تعتقد أنني مغرمة بك, ولم تفهم بعد معنى وجود علاقة طيبة بين طالبة ومدرسها لهذا فسترى أنها ستبذل قصارى جهدها لشد انتباهك إليها لوحدها وهي قادرة على ذلك مع أي رجل.
[size=9]ثم همست بلهجة ودودة: أرجو أن تفوت عليها هذه الفرصة الصبيانية؛ كي تكسب احترام ومودة وثقة والدي. فهي لا تزال طفلة كبيرة تحب أن تلعب وتلهو, لا أكثر.
[size=9]وصلنا إلى مشارف الغابة قبل غروب الشمس بساعات طويلة.
[size=9]كان ذلك في مثل هذه الأيام الصيفية من عام 1988.
[size=9]كان ثمة لوحة طرقية مدون عليها "من هنا تبدأ الملكية الخاصة للعائلة ووتر درنكر". توغلنا طويلا, لنحو ربع ساعة بالسيارة حتى طالعتنا بوابة كبيرة, والجميع ينتظرنا.
[size=9]جيلبرت, كان رجلا في الأربعين ونيف, طويل القامة وناحل الجسم, أشقر, تغطي ثغره ابتسامة ودودة.
[size=9]أما سميرة, فكانت قصيرة القامة, تكسوها بعض البدانة, سمراء يطفح وجهها صفاء وحبا لو وزع على الأرض لغمرها, لفرط طيبتها, ونقاء روحها.
[size=9]بادرتني قبل الجميع مرحبة بلهجتها العراقية التي لم تفارقها بالقول: يا هلا ومرحب؛ ثم تبعها جيلبرت معربا عن توقه لهذا اللقاء, هامسا في أذني وهو يصافحني بحرارة بالغة: لم تحدثنا بريجيت طيلة السنتين الماضيتين عن أي من أساتذتها في الجامعة, مثلما كانت تتكلم دوما عن تفانيك وإخلاصك لعملك كم نتوق الآن لنرد لك جميلك وعنايتك الخاصة بابنتنا.
[size=9]عندما أشرفنا على الانتهاء من طعام العشاء في الصالون الرحب, وسط لفيف من أصدقاء العائلة, جيء بعود ذي ستة أوتار فاستلمه جيلبرت, وأخذ "يدوزنه" وما هي إلا لحظات حتى بدأت الأنغام العربية تخرج من بين أصابعه وريشته, فنظرت إلى مضيفتي مندهشاً مما أسمع, فأومأت بعينيها أن أنتظر قليلا.
[size=9]أخذ جيلبرت يعزف مقام النهاوند, ثم انتقل إلى الصبا ومنه إلى الحجاز, كنحلة تطير من زهرة إلى أخرى, دون أن يقع في خطأ أو علامة موسيقية نشاز. وما هي إلا دقائق قليلة, حتى بدأت تخرج من حنجرته كلمات بالعربية, هي قصائد لشعراء عراقيين كبار.
[size=9]غنى جيلبرت ليلتها كل ما كان يحفظه من أغان لسعدون جابر وناظم الغزالي وغيرهما.
[size=9]سألت بريجيت ونحن نمشي في أروقة الحديقة الكبيرة تحت ضوء القمر كيف ومتى تعلم والدها العربية, وبهذه الدرجة من الإتقان في النطق السليم. أجابتني وهي تضج ضحكاً:
[size=9]هل تصدق أن والدي لا يعرف من العربية إلا بضع كلمات متناثرة لكنه يعشق الموسيقا وأمي ولأنه يحبها, فقد أحب لغتها وثقافتها وحضارتها.
[size=9]كان يكفيه أن يصغي إلى أشرطة الكاسيت الموجودة في البيت من الموسيقا العربية كي يحفظها مثلما تؤدى, ويحفظ ألحانها سمعاً, بعد أن تلقى دروساًَ مكثفة بتعلم العزف على العود.
[size=9]إنه الحب الذي يجعله يتعلم أصعب الأشياء بيسر وسهولة.
[size=9]الحب أقوى من الإدراك أليس كذلك؟