دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الأربعاء 4 تشرين الثاني 2009
سعيد هلال الشريفي
عندما بدأت العولمة تجتاح الكرة الأرضية مع وصول الرئيس الأمريكي رونالد ريغان إلى البيت الأبيض عام 1980, كان الوطن العربي يعيش نهاية معركته الفكرية بين الحداثة والسلفية التي وصلت إلى ذروتها خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, دون أن تحسم لصالح طرف دون آخر.
لكن عقد السبعينيات أخذ ينذر, مع تراجع المدافعين عن الحداثة, وهجرة العديد من رموزها باتجاه الغرب, بتغيرات جوهرية على الساحة الثقافية والفكرية على امتداد مساحة الوطن العربي.
هكذا غابت مجلة «شعر» عن أكشاك البيع, كما اختفت في تلك الحقبة العديد من المجلات الفكرية المصرية التي كانت مترافقة مع المد القومي العروبي الناصري. وللأسباب نفسها سكتت إذاعة صوت العرب من القاهرة, لتبدأ مرحلة الاغتيالات الممنهجة من قبل الموساد لرجال الفكر والإبداع, كغسان كنفاني وغيره.
وفي خضم تلك المرحلة من التراجع المتسارع, بدأت تهاجر قامات أدبية وصحفية كبيرة, كانت تشكل أهم أركان أعمدة الصحف والمجلات العربية, إما بدافع اليأس من إمكانية التغيير, أو بحثا عن ظروف مادية أكثر رخاء في الصحافة العربية المهاجرة في العديد من دول أوروبا الغربية.
مع خلو الساحة الثقافة العربية من الرموز الفكرية الفاعلة, أضحى الشارع العربي مهيئا لأي فكر بديل يملأ الفراغ, في ظل غياب شبه تام للمؤسسات الثقافية الرسمية الفاعلة, فكان من الطبيعي أن يمسك أنصار الفكر الرجعي بالمجتمعات العربية من كل نواصيها, ويعتلوا المنابر الثقافية والفكرية, خصوصا منها المؤسسات التعليمية. وقد ترافق ذلك مع انفتاح الولايات المتحدة آنذاك على العالم العربي عبر دعم غير مسبوق للحركات الإسلامية الأصولية المتشددة, بهدف زجها في معركتها ضد الاتحاد السوفييتي ومناهضة الفكر الشيوعي.
عندما كان المثقفون العرب يتناحرون بضراوة خلال الفترة من خمسينيات حتى سبعينيات القرن الماضي حول مشروعية أو عدم مشروعية الحداثة, كانت الصين برؤية حكيمها ماوتسي تونغ تعتقد أن معركتها الأولى هي مع الأمية والجهل, وأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية لايمكن لها أن تنجز إلا بمواطن متعلم. لذا فقد تم منح التعليم والتثقيف أولوية قصوى, أفضت إلى تخصيص كامل عقد الستينيات لانجاز «الثورة الثقافية» أولا, ثم الشروع بتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية.
لم تترك العولمة بلدا من دون أن تجتاحه اقتصاديا وثقافيا وسياسيا, خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989, واحتكار الولايات المتحدة لكل مخرجات ثورة الاتصالات والثورة الرقمية خلال العقد الأخير من القرن الماضي.
لكن الاجتياح الأكثر عنفا لهذه العولمة كان من نصيب المنطقة العربية بسبب هشاشة بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
من حق المثقف العربي الشاب وهو يودع الآن العقد الأول من الألفية الثالثة أن يحاول استكشاف ملامح المهام الجسام الملقاة على كاهله, بعد هذا الإرث الثقيل من البنى الثقافية المنهارة التي أورثه إياها جيلان استنزفا قواهما, ليس في إنضاج حوار يفضي إلى قيم جديدة مشتركة, بل في إلغاء بعضهما بعضا.
هل كان للمشروع الصهيوني كحامل لراية العولمة بأبشع أشكالها وأكثرها عنفا, أن يتقدم بيسر, لو حافظ الفلسطينيون, ومن ورائهم الأمة العربية, على منظمة تحرير واحدة تقدم نفسها للعالم, بخطاب إنساني وقانوني, كممثل لشعب اغتصبت أرضه وطرد منها بقوة السلاح, بعيدا عن أي شعارات عقائدية؟
لقد تمكن الشيطان الصهيوني, مع مرور الزمن, من تحويل القضية الفلسطينية من مشكلة قانونية لشعب طرد من أرضه التاريخية, إلى قضية صراع إيديولوجي مع منظمات إسلامية حاول بكل قواه شيطنتها أمام الرأي العام العالمي, لتسهل عليه شرعنة ارتكاب أبشع المجازر بحق أبنائها.
لقد تحققت للعولمة معادلة مثلى لمشروعها الجهنمي في المنطقة العربية: ثروات تثير شهية وحوش المال في العواصم الغربية التي انطلقت منها, وهناك جهل وتخلف بمقاييس غير مسبوقة (ستون مليون أمي عربي, غالبيتهم من النساء) وخواء ثقافي وفكري, وانهيار شبه تام في البنى التعليمية الرسمية والخاصة, واستعداد ذهني ونفسي مسبق لتقبل نظرية المؤامرة .
حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يقود تركيا العلمانية منذ عام 2001 بأغلبية شعبية ساحقة, لايقدم قادته وممثلوه الرسميون أنفسهم للعالم كرجال دين, بل كرجال سياسة من الطراز الرفيع, يدينون بدين الإسلام.
لقد انبثقت الأحزاب الإسلامية في الدول الناجحة كتركيا وإندونيسيا وماليزيا من رحم الحداثة, فتقبلها العالم, رغم برنامجها الإسلامي الذي أوصلها إلى سدة الحكم.
أما في عالمنا العربي فلا تزال, حتى بعض حركات التحرر الوطني, تنبثق من جلباب السلفية والخطاب الديني المتشدد, الذي يضيع الحقوق القانونية في فوضى الصراعات العقائدية.
هل غادر الشعراء من متردم؟
هل كان السياب, رائد الحداثة الشعرية يرى منذ خمسينيات القرن الماضي الكارثة قادمة إلى المنطقة العربية, فصرخ محذرا بحسه المرهف من هول ما هو قادم, وصاح بالخليج:
ياواهب اللؤلؤ والمحار والردى, فيرجع الصدى كأنه النشيج ياخليج ياواهب المحار والردى. أكاد أسمع العراق يزخر بالرعود, ويخزن البروق في السهول والجبال... أكاد أسمع النخيل يشرب المطر, وأسمع القرى تئن والمهاجرين يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع, عواصف الخليج والرعود منشدين, مطر.. مطر.. مطر..