بعد كل ما أصابها من ركود ونكوص حضاري طيلة قرون متتابعة, واجتياح لقيمها ولغتها وتاريخها وثقافتها على يد غزاة جدد امتلكوا وسائل معرفية حديثة مكنتهم من التسلل عبر الفضائيات العابرة للحدود والشبكة العنكبوتية إلى كل بيت, وبالتالي اختراق كل عقل, وفرض أنماط مختلفة من التفكير, تعتمد على الاختزال, والصورة البصرية الفاقعة, عبر تكريس مفاهيم جديدة, محددة, تتكرر في كل مكان وعلى مدار الساعة, لينتج عنها حقائق مجتزأة, ومبتسرة, تصدر الكثير من الضجيج الإعلامي, ولاتقول شيئا في نهاية المطاف.
[size=9]صراعات دموية تدمر الحجر وتحرق الشجر وتقتل ملايين البشر, تدور رحاها منذ بداية الألفية الحالية فوق الأرض العربية, وعلى تخومها, دون أن يرتوي غليل هذا المارد القادم من أقاصي الأطلسي, الذي يصرخ ويزمجر ويهدد ويتوعد, وينقل لنا, عبر فضائيات ناطقة بالضاد, بأن الدماء التي سفكها فوق أرضنا هي من أجلنا, من أجل حريتنا, ومستقبل أفضل لأبنائنا.. أي هراء هذا.. هل كان يتخيل رواد النهضة العربية الأوائل أن يأتي يوم, تستباح فيه ثقافة الأمة بهذا الشكل, وتستخدم فيه لغتها الجامعة كرافعة لدس السموم والتفاهات في عقول أبنائها؟.
[size=9]الحروب العنيفة من جهة, وتدمير ثقافة الأمة من جهة أخرى. أي خراب هذا الذي سوف تكتشفه الأجيال القادمة, عندما تندحر كل تلك الجيوش وتعود إلى ثكناتها مثقلة بإرث من الإجرام يرهق كاهلها, ولو بعد حين؟
[size=9]منذ أيام, صدر قرار دولي يقضي باعتماد عشر لغات عالمية لاتستخدم الحرف اللاتيني في الدخول عبر مستعرض الإنترنت, ومنها اللغة العربية, اعتبارا من بداية العام المقبل.
[size=9]هل هو إنصاف للغتنا, أم خدعة جديدة لنا من شأنها أن تمكن مندوبي مبيعات العولمة المتوحشة, بمزيد من ضخ التفاهات والسموم في عقول أبنائنا, مادمنا لانسهم حتى الآن بشيء يذكر في المحتوى الرقمي والتوثيق الالكتروني العالمي؟
[size=9]ومنذ شهر ونيف أيضا, خرج مؤتمر حركة التأليف والنشر الذي عقد في بيروت تحت شعار «كتاب يصدر.. أمة تتقدم» بتوصية تدعو إلى الإسراع بعقد قمة عربية ثقافية, تم بمقتضاها تفويض سمو الأمير خالد الفيصل, رئيس مؤسسة الفكر العربي, بمخاطبة عمرو موسى, الأمين العام لجامعة الدول العربية, بهذا الشأن.
[size=9]كانت استجابة سمو الأمير على قدر الخطب والإحساس بالمسؤولية القومية, فوجه خطابا عاجلا ومطولا, جاء فيه: «أجمع المؤتمرون على إنابتي لأنقل لكم رسالة المؤتمر ونداءه الأول من نوعه, بأن تقوم جامعة الدول العربية بالدعوة إلى عقد قمة ثقافية تحت رعايتها, على غرار القمة الاقتصادية التي عقدت في الكويت بداية العام الحالي. علما بأن الأزمة الثقافية ليست أقل خطورة على المجتمع العربي, وإن اختلفت مظاهرها, وتباينت آثارها وانعكاساتها... إنه إذا لم نواجه هذه الأزمة الثقافية بالسرعة اللازمة, والآليات والاستراتيجيات الكفيلة بالتصدي لها, التي صار من الضروري أن تصدر من أعلى مستويات القرار السياسي, فإنها تنذر بالتحول إلى أزمة كيان ووجود حضاري للأمة بكاملها».
[size=9]قد يكون من فضائل الأزمة المالية العالمية, أنها كشفت للإنسان العربي أولا, كذبة كبرى اسمها «الحضارة الغربية المدنية الحديثة» لأنها, حسب آخر الأرقام المعلنة, فقد ابتلعت «أسواق الحرامية», عفوا أسواق المال العالمية, من صناديقه السيادية, التي يفترض أن تكون مصونة وآمنة, نحوا من 800 مليار دولار, كانت كافية لو تم توظيفها في استثمارات عربية اقتصادية ومعرفية, أن تقلب وجه المنطقة العربية رأسا على عقب, وتعيدها قسرا إلى السلم الحضاري الذي نأت عنه ردحا من الزمن.
[size=9]فهل ستأتي القمة الثقافية العربية لتكمل ما رسمت معالمه الأولى قمة الكويت الاقتصادية, لأن عملية التنمية المستدامة لايمكن أن تنجز إلا بإنسان متعلم, نظيف الذهن من الخرافات, ومنفتح على المعرفة بكل تطوراتها, وفاعل فيها.