فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
صحيفة الشرق القطرية
2010-01-06
سعيد هلال الشريفي
توقفت مطولا أمام عبارات الاستياء والغضب التي أطلقها الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز عقب انتهاء أعمال قمة كوبنهاغن الأخيرة في شهر ديسمبر الماضي حين قال بحسرة بادية على وجهه: " لو كان مناخ الأرض واحدا من المصارف العالمية الكبرى المتعثرة, لهب الجميع إلى إنقاذه".
نحن إذا أمام واقع عالمي جديد ومختلف, توضحت معالمه الرئيسة طيلة عام ونصف من خلال أعنف أزمة مالية واقتصادية عرفتها البشرية حتى الآن, لتأتي قمة كوبنهاغن التي توقعنا,كمراقبين, فشلها قبل أن تنعقد, وتجسد للعيان الوجه القبيح لديكتاتورية مالية امبريالية أنجلو سكسونية تحديدا, تحكم قبضتها على العالم, تقاوم الغرق بالدفع عرض البحر بكل أثقالها كي تنجو بمفردها, بلا خسائر, ولو على حساب البشرية برمتها.
يشكل سكان القارتين, الأوروبية وأمريكا الشمالية نسبة 9 % من عدد سكان العالم فقط. تطرح شعوبها وشركاتها الصناعية العملاقة مايزيد عن 70 % من حجم الغازات السامة الملوثة للغلاف الجوي, المتسببة بظاهرة الاحتباس الحراري, المسؤولة عن الكثير من الكوارث البيئية والأخطار المحدقة بتعذر استمرار الحياة على الأرض خلال العقود المقبلة من الزمن.
مع ذلك, لم يتورع رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون من التنصل من كل مسؤولية, وإلقاء تبعات تدهور مناخ الأرض على الدول النامية الطامحة إلى التنمية معتبرا أن ذلك ليس من حقها, بقوله لمندوب صحيفة فايننشال تايمز في اليوم الأخير للقمة: " لن ندع حفنة ضئيلة من بلدان العالم تأخذنا رهينة مطالبها".
ترى من كان يقصد بقوله "حفنة ضئيلة" غير الصين والهند ومجموعة ال77 التي تمثل لوحدها, أكثر من نصف سكان العالم؟ هل كان يرى حقا في هذا الامتداد الجغرافي الشاسع شعوبا يزيد عددها عشرات المرات عن عدد سكان قارته الباردة, من حقها أن تأكل وجبتين غذائيتين في اليوم, ودولا ذات سيادة, من حقها هي الأخرى أن تقوم ببرامج تنمية واسعة تكفل لشعوبها حدا أدنى من ظروف الحياة التي تليق بالبشر؟
لو كان الأمر كذلك, لما اختتم حديثه مع مندوب الصحيفة بهذا الحد من الغطرسة والتعالي بقوله: "سوف أتقدم للقمة باقتراح مشترك مع صديقي الرئيس الفرنسي نطلب فيه تفويضا عالميا لقيادة الاتحاد الأوروبي يرمي إلى اعتبارها المسؤول الوحيد عن برامج مراقبة انبعاث الغازات السامة في الهواء على مستوى جميع دول العالم, وتقديم تقرير سنوي للقمة عن المخالفات التي تجري بهذا الشأن".
عندما يطلع قارئ أوروبي أو أمريكي على تصريح من هذا النوع, لابد أن يساوره اعتقاد بأن المسؤول عن تدهور مناخ الأرض هو "الآخر", وأن الملاك الأوروبي يسعى لوضع أسس ومعايير رقابية من شأنها الكشف المبكر عن هؤلاء المخربين لمناخ الأرض وتقديمهم للعدالة الدولية.
تقدم غوردون براون باقتراحه قبل صياغة البيان الختامي للقمة, مزهوا متفاخرا بمنجزه الذي صاغ حروفه مع صديقه الرئيس الفرنسي, منتظرا نظرة, ثم ابتسامة يرسمها الرئيس الأمريكي باراك أوباما على ثغره كدليل على حسن القبول.
لكن الفكرة لم ترق كثيرا للرئيس أوباما, الذي أشاح بوجهه عنها, فضاع الحلم الأوروبي المشترك, بإمكانية إغراق السمكة في حوض الآخرين, عبر تلفيق تقارير سنوية تعفي من تعفي من المسؤولية وتسلط سيف رقابتها على من تختلف معه سياسيا واقتصاديا.
بعد ثوان قليلة رأى الجميع على شاشات التلفزة وجه الرئيس الأمريكي يشرق من جديد, ويصغي باهتمام بالغ لاقتراح تقدم به جان تيرول, دحض من خلاله عدم جدية الاقتراح الأوروبي, مستبدلا إياه ببناء شبكة هائلة من الأقمار الاصطناعية المزودة بتكنولوجيا عالية الكفاءة قادرة على رصد كمية الغازات التي يطلقها كل بلد في العالم, وبثها إلى مركز معالجة على الأرض بشكل يومي.
هو ذا الاقتراح العملي الذي كانت تنتظره الإدارة الأمريكية من قمة كوبنهاغن. لهذا فقد تلقفه الفريق المرافق للرئيس أوباما بترحاب منقطع النظير, لأن بناء هذه الشبكة من الأقمار الاصطناعية المعقدة شأن أمريكي بحت, سوف يتيح, حسب تحليلات العديد من الكتاب العالميين, للولايات المتحدة أن تحكم رقابتها التامة, وعلنا على جميع أنشطة دول وشعوب العالم بذريعة مراقبة حجم انبعاث الغازات السامة.
هكذا اختتمت قمة المناخ بتبادل مذهل في الأدوار, نتج عنها جلوس المتهمين وراء منصة القضاء, وعودة أصحاب الحق إلى ديارهم مخذولين, وربما متهمين, ولسان حالهم يقول ما قاله الشاعر أبو فراس الحمداني في سجنه مخاطبا ابن عمه سيف الدولة:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي, فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.