الآن بدأت أجد تعليلاً، ولو غير واضح كلياً، للدوافع الخفية أو العاطفية التي كانت تشدني منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى ذلك البلد الجار الجميل، وشعبه الرائع.
[size=9]أول زيارة لي، كانت صيف عام 1988. لم يكن مخططا لها البتة. بل على العكس تماما.
[size=9]كنت حينها مقيما في جنوب فرنسا، وسبق أن اتفقت مع مجموعة من الأصدقاء الفرنسيين لقضاء جزء من عطلة الصيف في تشيكوسلوفاكيا، بهدف زيارة العاصمة براغ، والتعرف إلى معالمها التاريخية والثقافية.
[size=9]تلك كانت فكرة إيريك.
[size=9]كان إيريك بارواسيان، الذي فقدت كل أثر له بعد بضع سنوات بشكل مفاجئ، لأعلم مؤخرا أنه يقيم في طوكيو كمدرس للغة الفرنسية هناك، ينتظرني في باريس مع باقي الأصدقاء، كي ننطلق معا بحدود الخامس عشر من شهر تموز.
[size=9]حول الطاولة التي جمعتنا في مقهى بشارع سان جيرمان بباريس قبل ثلاثة أيام من موعد السفر الافتراضي إلى براغ، كان ثمة إعلان يحتل واجهة كبيرة من الجدار المقابل لنا، يروج لرحلة لمدة أسبوع في اسطنبول، والإقامة في أبهى فنادقها، والتجوال في ثلاث من أجمل جزر تركيا لقاء مبلغ زهيد لايتجاوز ألف فرنك فرنسي.
[size=9]قلت لمن حولي: أنظروا إلى هذا الإعلان. ألا تبدو لكم هذه الوجهة أكثر جاذبية من براغ؟
[size=9]رغم أن صديقي إيريك كان المحرض الرئيس على فكرة زيارة براغ طيلة العام الدراسي في الجامعة، إلا أنه كان أول المتحمسين للفكرة الجديدة.
[size=9]التفت إلينا وهو يمسح إصبعيه فوق شاربيه الشقراوين قائلاً: من منكم مع فكرة تغيير وجهتنا إلى اسطنبول؟
[size=9]نهض جان كلود وصديقته على الفور منزعجين من هذا التطور المفاجئ، معلنين إصرارهما على المضي بمفردهما إلى براغ، بعد أن صبا جام غضبهما علي لأنني أفشلت مشروعا متفقا عليه منذ عدة شهور.
[size=9]لم تكن العلاقات بين سورية وتركيا مثلما هي عليه الآن. لذا كان علينا جميعا أن نتوجه على الفور إلى السفارة التركية في باريس كي نحصل على تأشيرات الدخول قبل الحجز لدى أحد مكاتب السياحة المصدرة للإعلان.
[size=9]في بهو السفارة التركية الواسع، كان ثمة شابتان تركيتان تقومان بدور الاستقبال ومساعدة طالبي التأشيرات على إملاء الاستمارة المطلوبة.
[size=9]استلمت إحداهن جواز سفري السوري، ثم أخذت تقلب صفحاته، وبعد أن فرغت من تعبئة الاستمارة، طلبت مني تذييلها بتوقيعي، وتزويدها بالإقامة الفرنسية كي تنسخها وترفقها بالطلب، ففعلت. ثم مضت وهي تزرع البلاط برنين كعب حذائها العالي، لتعود بعد دقائق قليلة طالبة بابتسامة آسرة، وصوت عذب تتخلله لكنة تركية واضحة في لغتها الفرنسية، متوجهة إلي بالقول: سعادة القنصل العام يرغب بلقائك.
[size=9]نظر إلي كل من إيريك وميريام متسائلين: هل تعرفه أو يعرفك مسبقا؟
[size=9]قلت لا. وأنا أستغرب الأمر مثلكما.
[size=9]كان القنصل التركي بهي الطلعة، في العقد الرابع من عمره. ما أن ولجت مكتبه برفقة موظفة الاستقبال، حتى نهض مصافحاً، ومبادراً بابتسامة يقول: هذه أول مرة أتلقى فيها خلال وجودي منذ سنتين في باريس، طلب تأشيرة لأخ وجار من سورية. لهذا أحببت التعرف إليك عن قرب. تفضل بالجلوس.
[size=9]المقام هنا لايتسع للحديث عن تفاصيل ذلك اللقاء الودود والحميمي مع قنصل تركيا، خصوصا عندما علم أنني صحفي. لكنني أذكر جيدا أنه قال لي وهو يشيعني إلى باب مكتبه، بعد أن مهر جواز سفري وأصدقائي بتأشيرات مميزة لعدة رحلات: (يفترض أن لا يكون هناك تأشيرات دخول بين مواطني بلدينا أصلا، لأننا ننتمي إلى دين واحد وثقافة مشتركة. أليس كذلك؟)
[size=9]كم أتوق الآن إلى تلك الأيام.
[size=9]لن أتحدث الآن عن المواقف العظيمة للشعب التركي وحكومته الحرة منذ العدوان الصهيوني أواخر عام 2008 على أهلنا في غزة الجريحة المحاصرة.
[size=9]من منا لايعرفها؟
[size=9]لكن ما لايعرفه، ربما كثير منا، أن الشعب التركي يختزن في ذاكرته الجمعية الكثير من الحب لنا كعرب، وسوريين على وجه الخصوص.
[size=9]وأتساءل:
[size=9]ماالذي يمنع انفتاح مؤسساتنا الثقافية والإعلامية وقلوبنا على نظيراتها التركية بأوسع الأبواب حتى الآن؟
[size=9]أين البرامج التلفزيونية التي تنقل لنا جوانب من الحراك الثقافي والسياسي الملتهب في ذلك البلد الذي يعرب كل يوم عن مناصرته لقضايانا العادلة؟.
[size=9]كم يحزنني أن قراءنا لا يعرفون شيئاً حتى الآن عن القصة والرواية والشعر التركي الحديث، ولا عن نجاحات السينما التركية ومسلسلاتها الدرامية التي أصبحت تقلق الدوائر الاستعمارية والصهيونية بسبب جرأتها على كشف الوجه المتوحش لأطماعها في منطقتنا.
[size=9]وبما أننا فتحنا سيرة الدراما التركية، فقد نقلت صحيفة (زمان) التركية الصادرة بتاريخ الرابع عشر من الشهر الجاري عن باهدير أوزدينر، كاتب قصة وسيناريو مسلسل (وادي الذئاب) الذي أثار عاصفة دبلوماسية بين الكيان الصهيوني وتركيا مؤخرا، قوله أنه عاكف وفريق العمل الآن على تصوير أولى المشاهد من مسلسل جديد يحمل الاسم نفسه (وادي الذئاب: فلسطين). تبدأ أول حلقة فيه بمشهد اختطاف علي ابن ميماتي باش من قبل عناصر الموساد في تركيا، وإخفائه في أقبية السفارة الإسرائيلية في أنقرة، قبل نقله إلى تل أبيب، ورسم مراد علم دار ورفاقه لخطة محكمة تفضي إلى تحريره، والكشف عبر حلقات الجزء الأول التي تفيض على المئة عن وجود طبيب إسرائيلي يتخذ من سفارة بلده مقرا للتجارة الدولية بالأعضاء البشرية العائدة للفلسطينيين الذين يقتلهم الجيش الإسرائيلي بهدف انتزاع أعضائهم وتصديرها للغرب عبر ذلك الطبيب المقيم في السفارة الإسرائيلية.
[size=9]كما يسلط المسلسل الضوء على مأساة الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستين عاما، وما اكتنفها من تآمر دولي محكم الإطباق حولها. مختتما تصريحه لصحيفة (زمان): حان الوقت لكي يعرف العالم حقيقة هذه الدولة الإرهابية المدعومة كليا من الغرب وتحديدا من الولايات المتحدة، لأنها تشكل عقبة في تطور المنطقة وازدهارها. لا بل إنها تشكل تهديدا جديا للسلم العالمي برمته.